في مستهل أول درس بعد الانتهاء من التعارف بين التلاميذ الجدد و الأستاذ الذي هو كذلك عُين مجدداً في بداية السنة الدراسية 2011-2012 بدأ الأستاذ بطرح سؤال مُبهم متبوع بعلامة استفهام صفراء كبيرة، سؤال كبير أثار مأزقاً فكرياً لدى جميع التلاميذ الذين وجدوا مشكلاً مستعصياً يبدو كلغز غريب يستحيل إيجاد حل له، و إليكم جزءأً من الحوار نقلاً عن الأستاذ الجديد المتحمس و الجدي.
الأستاذ: من منكم يستطيع أن يُعرّف لنا النعيم الأعظم؟
التلميذ الأول الذي رفع أصبعه: أستاذ لم ندرس هذا سابقاً و ما سمعنا بهذا !
الأستاذ: أين درستم؟ و من درسكم؟
تلميذ آخر: أنا درست السنة الماضية عند أستاذ سني... لم يكن يناقش معنا... كان يقول لنا انقلوا و لا تجادلوا... فالذي ذكر في كل أحاديث السنة حق حتى و لو لم يقبله العقل !
آخر: أستاذ من أهل الشيعة، كان يضيع وقتنا في سرد سيرته الذاتية و يخرج من مواضيع المقرر الدراسي ليحكي لنا عن أمجاد خيالية لا تستوعبها عقولنا و لا يطلب منا كتابة أي شيء !
تلميذ آخر: لا أتذكر ! كنت أحضر فقط لإرضاء والدي لألا يوبخوني و يضربوني بسبب تغيباتي فأنا أصلاً أكره الدراسة و لا أعير اهتماماً لها !
الأستاذ: لمـــــاذا؟
نفس التلميذ: بسبب ما قاله زملائي فكل الأساتذة غير مُجدين، بلهاء، أنانيون، معقدون، عنصريون، رؤوسهم فارغة و لا يجيدون سوى انتظار نهاية الشهر لسحب الأجرة و جعلوني بذلك أكره المتابعة ! ( وأعتذر للأساتذة و المعلمين فأنا من أسرتهم و هذا فقط تمثيل لما يقال في كل المجتمعات... و ليس تأكيداً له)
الأستاذ: و ما الحل في نظرك؟
نفس الولد: لا أدري يا أستاذي فأنا حائر ! أنا مجرد ولد... مبتدئ في الحياة، لكني لا أجد ما يعجبني و ما يرضيني في هذه الدنيا و لا أحد يوجهني !!!
الأستاذ: قل و لا تخف ! هذا هو صلب الموضوع !
التلميذ: أريد أن أعيش في كوكب آخر (لا تستغربوا من هذا الجواب فقد سمعته يوماً من تلميذ رغم أن هذا الحوار افتراضي في أصله...) !
الأستاذ: و ما هو ذلك الكوكب الذي تريد أن تعيش فيه...؟ و هل في نظرك هذا هو الحل؟
تلميذ آخر ينطق: لا يستغني عن أخيه إلا الجبل... فالجبل قائم و لو لم يكن بقربه جبل... أما الإنسان فلا !
الأستاذ: أحسنت، ماذا يُفهم من هذا...؟
تلميذ آخر: أستاذي، يجب أن نتعاون و أن نتحاب و أن نتسامح... و طال الحوار حول مبادئ التعايش و التكافل و التعاون و التسامح... من أجل تراضي الجميع و من أجل السلم العالمي...
... يا له من مجهود من أجل أن نصل فقط إلى مفهوم كلمة تراضي... هذه خلاصة الأستاذ بعد تقييم مجهوده و تقويم نتائج التلاميذ...
تبين له أن مفهوم النعيم الأعظم الذي يريد إيصال معناه إلى التلاميذ صعب بالنسبة لمستواهم رغم أنه يبدو له سهلاً في الإجابة عنه...
اكتملت الحصة و خرج التلاميذ من القسم فرحين بالأستاذ الجديد... دار الكلام سريعاً في الوسط حول أستاذ خارج عن القانون أراد تضليل التلاميذ (كلام ناس سياسيين و جمعويين و أهل السلطة في البلد...)... و كلام من قلة جد قليلة من الناس يقولون نعم الرجل فهو حكيم يريد إرشادهم لكن... الله غالب... لا حياة لمن تنادي... لكن الأستاذ المسكين لا يعرفهم و لا يدري ما الذي ينتظره... خير في آخر المطاف... و في آخر هذه الدنيا... فصبراً جميلاً...
في الحصة التي تلت الأولى... التقى التلاميذ بالأستاذ مُجدداً و ما زالت علامة الاستفهام الصفراء الكبيرة عالقة في أذهانهم و السؤال بصوت الأستاذ الغليظ مازال رنينه و صداه فيها منذ طرحه إلى الآن...
"امسح السبورة يا ولدي..." كلمة روتينية يقولها المعلم المسكين بداية كل حصة جديدة ليقوم بتكرار ما قال في حصة التلاميذ التي سبقت مثل الببغاء... كثرة الكلام و وجع دماغ و كثرة التخطيط في السبورة من قبل الأستاذ المسكين ليوصل فكرة بسيطة إلى المتعلمين... يقوم بمجهود جبار لا يعترف له به أحد ... لا تحزن إن الله معنا...
مُسحت السبورة... أخذ الأستاذ الطباشير و كتب البسملة... كتب التاريخ... كتب الموضوع بخط غليظ من شدة ما بنفسه من تألم على أحوال التلاميذ: " النعيم الأعظم "، يا له من موضوع فضفاض ما زال التلاميذ متحمسون لمعرفته ! و سيعرفون بعد أن يكتب الأستاذ ما يريد...
خط في السبورة آية بخط سميك كذلك يظهر جيداً و يمكن قراءته من بعيد إلا لمن لا يريدون بذل أي مجهود ممن هم عميت بصيرتهم:(( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّـهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّـهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ))
ثم كتب آية أخرى:
(( فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴿174﴾ ))
و ليس أخيراً، كتب:
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖإِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿2﴾ ))
ثم دون أيضاً:
(( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ يَهْدِي بِهِ اللَّـهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿16﴾ ))
لم يمل من الكتابة فأضاف:
((يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴿21﴾ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿22﴾ ))
إنه يكتب المزيد:
(( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿109﴾ ))
و زاد بعد ذلك:
(( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّـهَ وَ كَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿28﴾ ))
أضاف كذلك:
(( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿20﴾ ))
و هو يقول في نفسه صدقت ربي فلا أشبع من الاستدلال بقول الحق منك ربي و سأضيف:
(( قَالَ اللَّـهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿119﴾ ))
ثم كنب في الأخير:
(( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿30﴾ )) صدق الله العظيم.
و بعد أن لون بعض الكلمات في تلك الآيات بلون مخالف لباقي كلماتها دار عند التلاميذ و قال: تعالوا لنحتكم إلى كتاب الله عز و جل، فهل بعد كتاب الله حديث أصدق من حديثه؟
قال التلاميذ و هم يَعرضون القاعدة التي يحفظونها عن ظهر قلب دون إدراكها حقاً: القرآن هو كتاب الله المحفوظ من التزوير... و نطق آخر الإنجيل محرف... و التوراة ... إلخ... لا يهم لأن هذا موضوع آخر قال الأستاذ نتابع لنصل إلى الهدف... قوموا بقراءة الآيات الكريمة و استخلصوا منها الكلمات و المغازي المشتركة و التي تدعم بعضها البعض و دونوا خلاصاتكم و ليكن العمل جماعياً أي أن تفرقوا الصفوف إلى مجموعات للتعاون.. إلخ...
بعد مدة تدخل الأستاذ للتقويم، أين وصلتم؟
المجموعة الأولى قالت إن كلمة الرضوان هي المكررة في جل الآيات بل و إن الله عز و جل يؤكد على الرضوان أكثر من جنة الخلد...
المجموعة الثانية قالت إن الله ذكر أن ما يُسخطه هم من كرهوا رضوانه... و حثنا أن لا نكون منهم فيجب علينا حب و اتباع رضوانه...
المجموعة الثالثة قالت إن الرضوان أكبر النعم و أعظمها، فقد فهمنا من الآيات أن الجنة أقل في قيمتها من الرضوان... فأين الرضوان إن لم يكن في الجنة؟؟!!!
المجموعة الرابعة انتبهت لهذا بتركيزها على الآية الأخيرة فقالت إن الله سوف يتحسر على عباده الذين كذبوا الرسل و ظلموا أنفسهم و سيدخلون جهنم و ما ظلمهم الله لكن الله سبحانه و تعالى سيبقى متحسراً في نفسه عليهم رغم ما اقترفوا و بسبب أن حادوا عن الهدف من خلقهم، لماذا التحسر أو الحسرة؟ لأن الله سبحانه و تعالى أرحم الراحمين بخلقه أجمعين... فينبغي أن يتحقق رضوان الله في نفسه (لأن الحسرة في نفسه) على كل الخلائق و العباد.
المجموعة الخامسة لم تكن متفقة مع الجميع فقالت ما الهدف من خلق جنة و نار ما دام الرضوان أعظم نعيم...
أجاب الأستاذ: و هل تعبدون جنة الله حتى تبتغونها؟؟ فهي ليست منه بل من خلقه، أما رضوانه فهو في نفسه فيجب ألا نكون أنانيين بأن نعبد الله ابتغاء جنة كيفما كان لأنها فتنة و أنتم لا تعلمون، بل نعبده لما هو عليه أي بذاته و نفسه و باعتباره خالقنا له الأمر كله، معنى أن نعرفه حق المعرفة بصفاته المطلقة التي لا يشترك معه فيها أحد فله الأمر كله و هو أرحم الراحمين و من يغفر الدنوب سوى الله و من خلق العباد سوى الله و لأجل ماذا؟ أن تدخلوا أنتم الجنة دون أن تأخذوا في الحسبان الذين تشويهم نار جهنم؟ هل تريدون جنة بصلواتكم و عباداتكم أم برحمته و برضاه و رضوانه عليكم؟ فهل ترضون أن تدخلوا الجنة و ربكم غير راض (أي متحسر) في نفسه على عباده الذين أنكروا لما خلقوا من أجله؟؟؟
أرجو أخي الحبيب غريب الغالي أن أكون قد أصبت أولاً و أن أكون أوصلت الفكرة ثانياً... فليس التكرار لحفظ كلام هو المقصود بل حث المُخاطب على استخدام العقل للتدبر و لفهم المعاني، فحين ندرك معنى التحسر و الرضوان و نيل الجنة ( و نكران الذات لخدمة الآخرين، تعاون تسامح محبة ما نحب لأنفسنا لغيرنا بل أكثر...) حينذاك لا تهم المصطلحات و لا ترديدها بقدر فهمها و تطبيقها... فقط يجب الاستمساك بالعروة الوثقى لنعرف الله حق المعرفة و نتجنب ما يُسخط الله و نفعل بأمر الله من طبيعة الحال ما يرضي الله... فإرضاء الله في الآخرة يتطلب التضحية ! نعم أخي حبنا لله الأعظم يوجب علينا أن نضحي بكل وسيلة و بكل حيلة من أجل أن يحبنا الله و يرضى عنا أستغفر الله لي و لكم و سلام على المُرسلين و الحمد لله رب العالمين...