ما الذي حدَث في فيزياء مناخ المنطقة المدارية حتى غرقت منطقة شبه الجزيرة العربية بالأمطار شديدة الغزارة...؟
كتَبَ وأعدَّ التقرير المناخي : أ.خالد العتيبي الخبير والباحث المناخي وعضو الوكالة اليابانية للارصاد الجوية:
فيضانات منطقة شبه الجزيرة العربية .. وحدَث الانعكاس النادر في نشاط تذبذب MJO الشتوي، ووفرة انبعاثات وهباءات العوالق البحرية بشكل نادر في سماء المنطقة.
مناقشة فيضانات منطقة شبه الجزيرة العربية آخر شتاء ومطلع ربيع 2024 #مفاهيم_وأسئلة
ما الذي حدَث في فيزياء مناخ المنطقة المدارية حتى غرقت منطقة شبه الجزيرة العربية بالأمطار شديدة الغزارة ؟
نحن وإياكم هنا لإجابة جزء كبير من هذا السؤال.
ولكن .. قبل أن نتحدث عن ذلك .. دعونا نطرح هذه المقدمة القصيرة لنُدرك القضية بشكل أوضح (خاصة لمن يواجهون صعوبة في المعرفة العلمية بفيزياء الحمل الحراري الكبير في كوكب الأرض المسمى تذبذب MJO).
بداية : يتدفق الحمل الحراري (المنظَّم) والكبير وواسع الانتشار في كوكب الأرض ؛ وهو تذبذب MJO خلال دورته الباردة أو الشتوية التي تنشط عادة من (نوفمبر حتى أبريل) من غرب الكرة الأرضية ويتجه إلى شرقها ، ويجلب معه في نشاطه هذا ؛ وهو قادم من الغرب ناحية الشرق ؛ نُظُم منخفضات ومرتفعات منطقة شبه الجزيرة العربية ، وما يرافقها من عوامل الخصب والجفاف وموجات البرد والدفء خلال تلك الفترة.
بينما يتدفق تذبذب MJO في مرحلته الدافئة أو الصيفية المعروفة باسم BSISO والتي تنشط عادة من (مايو حتى أكتوبر) وهو نشاط يأتي وينتقل ويتدفق عادة من شرق الكرة الأرضية إلى غربها ، ويجلب معها نُظُم منخفضات ومرتفعات منطقة شبه الجزيرة العربية الدافئة أو الصيفية وعوامل الخصب والجفاف وموجات الاعتدال والحر خلال تلك الفترة.
بالطبع حينما نقول "شرق وغرب الكرة الأرضية" فهذا قياس يؤخذ اعتباره الأول من المنطقة المدارية .. لأن قيمة MJO الكبرى في عموم المنطقة المدارية.
نُظُم منخفضات ومرتفعات منطقة شبه الجزيرة العربية تتبع تدفق MJO في مراحله تلك، الدافئة والباردة.
ووفقا للمشروع العلمي الذي أُطوره منذ سنوات ، تم اتخاذ منهجية المراحل الرباعية التي تُحاكي نشاط تذبذب مادن جوليان ودوراته المختلفة (دورته دون الموسمية القصيرة وهي دورة 25 يوما ، ودورته دون الموسمية الطويلة وهي دورة 45 يوما ، ودورته الموسمية الطويلة وهي دورة 90 يوما). لأن له إيقاعا مختلفا كل مرة بطبيعته كنظام فيزيائي ضخم.
في هذا التقرير المقتضب .. سأتحدث عن الدورة دون الموسمية الطويلة وهي دورة 45 يوما .. وهي التي تُوضّح لنا بجلاء الحدث الغريب الذي وقع نهاية هذا الشتاء ومطلع فصل الربيع.
ثانيا : فما الذي حدث ؟
بعد النشاط الخريفي في منطقة شبه الجزيرة العربية الذي امتد إلى مطلع الشتاء (ديسمبر 2023) .. بدأت مرحلة جديدة من النشاط مطلع 2024 ، ونستطيع وصفها بـ (الغريبة) أيضا .. بدأت تظهر ملامحها في نشاط وفي تدفق تذبذب MJO في المنطقة المدارية.
فما هي هذه المرحلة الغريبة ؟
النشاط والتدفق الغريب الذي حدث ، هو أن تذبذب MJO عكس نشاطه المعروف عنه في الفترة الباردة أو الشتوية (التي يأتي فيها من غرب الكرة الأرضية ويتجه إلى شرق الكرة الأرضية) ، وأخذ يتصرف كما لو كان في مرحلته الصيفية تماما … لقد تدفق MJO من شرق الكرة الأرضية إلى غربها ؛ إنه عكس نشاطه المعروف عنه تماما بشكل صريح .. إننا كما لو كنا في فصل الصيف .. وهذا غريب جدا للغاية في هذه الدورة من النشاط المحددة بـ 45 يوما.
بعد أن انحدر نشاط تذبذب MJO شرقا خلال يناير 2024 حدَث مع نهايات يناير 2024 شيء غريب في نظام MJO كنظام فيزيائي بالغ التعقيد في المنطقة المدارية.
حينما وصل التذبذب مرحلته الشرقية الثانية وهي مرحلة MJO-EAST2 عكس التذبذب نشاطه وعاد منها إلى المرحلة الشرقية الأولى MJO-EAST1
وبدأت تظهر مع تقدمنا في فبراير 2024 فيضانات القسم الجنوبي من منطقة شبه الجزيرة العربية (الإمارات - سلطنة عمان) وكذلك باكستان وأفغانستان وإيران .. كما لو كنا نراقب نشاطا صيفيا لتذبذب MJO ومرحلته الصيفية BSISO يتدرج في حركته من الشرق إلى الغرب ويتسبب في تكوين نظم منخفضات واسعة النشاط والتأثير معه. وبشكل بطيء للغاية أربك كل النماذج العددية.
ولم يتوقف هذا التدفق عن حركته الغريبة ، بل واصل سيره من المرحلة الشرقية الأولى MJO-EAST1 وانتقل إلى المرحلة الغربية الثانية MJO-WEST2 خلال شهري مارس وأبريل ، بل وازداد تعمقا في نشاطه وتأثيره ليس على مستوى القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية وحسب ، بل وصل النشاط معظم أرجاء منطقة شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط أيضا.
لعلك تلاحظ أن أحداث السيول تدرجت في الحدوث من شرق شبه الجزيرة العربية ثم انتقلت إلى غربها وانتشرت الأمطار بشكل واسع في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، وكأنك تشاهد مرحلة صيفية تتدفق فيها موجات روسبي “المنخفضات الجوية الشرقية” المرافقة لنشاط BSISO الصيفي .. ومع توقف هذا التدفق الغريب في هذه الدورة واسعة التأثير (دورة MJO دون الموسمية الطويلة ؛ دورة 45 يوما) عاد تدفق MJO إلى وضعه المعتاد وتدفق أيضا النشاط من الغرب إلى الشرق أواخر أبريل ومطلع مايو وأحدث سيولا كبيرة أخرى.
هذا التدفق نادر في نظام تذبذب مادن جوليان … في دراسات الباحثين (وهم يتبعون منهجية ماثيو ويلر وهاري هيندُن) ، وجدوا أن ما نسبته 90٪ من نشاط تذبذب مادن جوليان يتدفق فيه من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها وهو نشاطه المعتاد.
وكخبراء وباحثين في تذبذب MJO نُسمّي هذا التدفق بـ : Eastward propagation of the MJO وهذا هو تدفقه المعروف عنه في هذا العصر الحاضر.
بينما وجد الباحثون أن ما نسبته 10 ٪ فقط من جملة نشاط تذبذب مادن جوليان (الشتوي) انعكس فيها نشاطه واتجه من شرق الكرة الأرضية إلى غربها , عكس المعتاد .. ونُسمي هذا التدفق بـ : Westward propagation of the MJO
وهو المؤثر خلال هذه الفترة التي حدثت فيها الفيضانات في منطقة شبه الجزيرة العربية.
قد تزداد هذه النسب أو تختلف بحسب اختلاف منهجيات العديد من الباحثين حول العالم ؛ الذين لاحظوا هذا السلوك الغريب طوال الأرشيف المتوفر لديهم ، في القيمة اليومية طبعا لتذبذب MJO ؛ المعروفة عن أسلوب ومنهجية ماثيو ويلر وهاري هيندُن.
اللافت والغريب هنا أن هذا التدفق الغريب والقوي يحدث في الشتاء وليس في الصيف!
معظم أحداث الانعكاس هذه يصحبها تطرف كبير (كثافة وغزارة) في هطول الأمطار شمال المحيط الهندي وفوق منطقة شبه الجزيرة العربية تحديدا ، وأجزاء من الشرق الأوسط، وفقا للأبحاث التي التفتت إلى هذه القضية الغريبة في نشاط الحمل الحراري الكبير في المنطقة المدارية تذبذب MJO منذ مطلع 2004 الذي بدأت فيه منهجية ماثيو ويلر وهاري هيندُن بالظهور.
بالنسبة لمعطيات المشروع العلمي ومنهجيته التي تحمل مسمى “منهجية خالد العتيبي الرباعية” التي تتعامل مع تذبذب MJO كقيمة فيزيائية كبيرة جدا في الغلاف الجوي العالمي ، فإن أحداث الانعكاس هذه التي نُسمّيها هنا Reverse propagation of the MJO موجودة بشكل قليل جدا في الدورة الموسمية المحددة بـ 90 يوما وفي الدورة دون الموسمية الطويلة المحددة بـ 45 يوما .
ولعل أبرز أحداث الانعكاس القديمة (قصيرة التأثير) كانت في نهاية شتاء وبداية ربيع موسم 1996-1997 وقد كانت في الدورة الموسمية المحددة بـ 90 يوما. ولكن هذه الدورة الحالية 2024 التي حدث فيها الانعكاس قوية للغاية وطويلة بشكل كبير وواسعة التأثير بشكل أكبر ، وهي حتى الآن غير مسبوقة في أرشيف تذبذب MJO القصير المأخوذ عبر صور الأقمار الاصطناعية .. وأنا ما زلت أبحث في هذه الجزئية كل مرة لأتحقق منها كثيرا مستخدما مفاتيح علم المناخ القديم.
ثالثا :
السبب المهم جدا وراء مناقشة هذا الأمر ، هو أن حدث الانعكاس هذا ، جلب معه وفرة كبيرة في انبعاثات العوالق البحرية الهائمة في الهواء من جنوب شرق آسيا إلى منطقة شبه الجزيرة العربية. انبعاثات وهباءات العوالق البحرية للعلم ؛ هي أحد أهم وأكبر عوامل تعزيز تكاثف السحب وهطول الأمطار .. إن السحب التي تكونت فوق منطقة شبه الجزيرة العربية والفيضانات التي حدثت بشكل شديد جدا وغير معتاد في بعض الأجزاء ؛ تحمل بصمة تأثير وفرة انبعاثاتا وهباءات العوالق البحرية ، وتشبه غزارة الأمطار في العواصف الرعدية التي نشأت فوق منطقة شبه الجزيرة العربية هذه الفترة إلى حد كبير العواصف الرعدية التي تنشأ في جنوب شرق آسيا من ناحية وفرة وكثافة الأمطار الهاطلة منها.
أي أن هذه الحركة العكسية لنشاط تذبذب مادن جوليان MJO كحدث ضخم في فيزياء مناخ المنطقة المدارية ، وتبعها نشاط منخفضات منطقة شبه الجزيرة العربية بشكل عميق وتتدفق منطقة تكون هذه المنخفضات بشكل عكسي من الشرق إلى الغرب على غير المعتاد أيضا ؛ جلَبت معها حدثا كبيرا آخر .. اتضح في العمليات البيوكيميائية Biogeochemical processes (وهو وفرة انبعاثات وهباءات العوالق البحرية) التي تُمثّل العامل الرئيسي بمشيئة الله في كثافة وغزارة هطول الأمطار التي حدثت فوق منطقة شبه الجزيرة العربية في هذا الحدث غير المعتاد. والذي ما زلت أرى أنه أحد ترددات مناخنا قديم الخصب.
هناك حقيقة يجب أن يُدركها المتابع للنماذج العددية التي تتنبأ بهطول الأمطار : النماذج العددية NWP تتعامل مع هطول الأمطار على أنه عملية فيزيائية فقط .. ولكن عملية هطول الأمطار في الحقيقة هي عملية ليست فيزيائية وحسب بل كيميائية وأحيائية أيضا. لذا لا تستطيع النماذج العددية حتى اليوم التنبؤ بتأثير انبعاثات وهباءات العوالق البحرية في عمليات هطول الأمطار التي تؤثر بشكل كبير للغاية تأثيرا رئيسيا في وفرة وكثافة هطول الأمطار. ومن هنا تكمن أهمية مراقبة "توقعات العواصف الرعدية" وتحديد المخاطر الناجمة عنها في ظل عدم انتشار ومعرفة الكثير بنماذج كيمياء الغلاف الجوي.
ختاما
ربما أعود لطرح هذا الموضوع في مدونتي بشكل موسع لمناقشة الأسباب والسنوات التي حدث فيها هذا التدفق الغريب في نظام MJO وفقا لمخرجات منهجية المشروع العلمي ، ولمناقشة أهم قضية هنا : هل سيتكرر هذا التدفق العكسي بشكل قوي أيضا في المرحلة الصيفية من تذبذب مادن جوليان المسماة مرحلة BSISO ، وما الذي سيحدث بعد هذا السلوك الغريب والقوي للغاية في هذه الدورة دون الموسمية الكبيرة وشديدة التأثير .. وهل هو حدث كناري في منجم فحم … له توابعه وانعكاساته الكبيرة الأخرى شديدة التأثير القادمة على المنطقة أم لا .. وربما لا أعود لطرح هذا الموضوع .. ولعل الجميع يعرف ويرى حجم المضايقات الذي يواجهها مجالنا هنا في الشرق الأوسط ويُقدّر هذا العذر … والله المستعان.
في أمان الله.
